بقلم د : خالد السلامي
كان هناك دائمًا ذلك الشعور الغامض الذي يطاردنا جميعًا، ذلك الحافز الذي يجعلنا نرغب بالمزيد: المزيد من النجاح، المزيد من التقدم، المزيد من كل شيء. نسميه الطموح. إنه مثل نداء داخلي لا يمكن إسكات صوته، يدفعنا لنمد أيدينا نحو النجوم. لكن على الجانب الآخر، هناك صوت مختلف تمامًا. صوت أكثر هدوءًا، يشبه نسيمًا لطيفًا يخبرنا بأن ما لدينا الآن يكفي. إنه الرضا، الشعور بأن الحياة بشكلها الحالي تحمل جمالًا يستحق التقدير.
في بعض الأحيان، يبدو الطموح والرضا وكأنهما خصمان يتصارعان داخل عقولنا وقلوبنا. هل يمكنك أن تسعى دائمًا للأفضل دون أن تفقد القدرة على الاستمتاع بما تملكه بالفعل؟ أم أن اللحظة التي تصبح فيها طموحًا تعني أنك تتخلى عن فرصة أن تكون راضيًا؟
ما يزيد من جاذبية هذا السؤال هو أنه شخصي جدًا. قد تكون شخصًا يوقظك طموحك في منتصف الليل، يحثك على العمل أكثر لتحقيق حلم بعيد. أو ربما تكون من أولئك الذين يجلسون بهدوء على شرفة منزلهم، يحتسون كوب شاي، ويرون أن هذه اللحظة وحدها تكفي لتشعر بالسعادة. وبين هذين العالمين المختلفين، هناك طريق ثالث، غير مرئي، يمزج بين الطموح والرضا.
إذا كنت تتساءل الآن عن هذا الطريق وكيف يمكن السير فيه، فأنت لست وحدك. في هذا المقال، لن نقدم إجابة نهائية فقط، بل سنحاول اكتشاف هذه الثنائية التي تحكم حياة كل واحد منا. وربما مع قليل من التفكير العميق، وقليل من التجارب، سنجد جميعًا التوازن الذي نبحث عنه.
الطموح والرضا: مفاهيم متعارضة أم مكملة؟
الطموح هو ذلك الوقود الذي يشعل في داخلنا الرغبة للقيام بما يبدو مستحيلاً. إنه المحرك الخفي الذي يحول الأحلام المجردة إلى خطط وأفعال. في كل قصة نجاح ملهمة، تجد الطموح حاضرًا كالبطل الخفي. من العلماء الذين سهروا ليالي طويلة لفهم ألغاز الكون، إلى الرياضيين الذين كسروا أرقامًا قياسية، الطموح هو العامل المشترك الذي جمعهم جميعًا. لكنه ليس دائمًا إيجابيًا. الطموح بلا ضوابط يمكن أن يتحول إلى عبء ثقيل، يدفع الإنسان إلى الإجهاد أو حتى إلى الفشل عندما تصبح التوقعات غير واقعية.
على الجانب الآخر، هناك الرضا. إنه الهدية التي تقدمها الحياة لأولئك الذين يعرفون كيف يقدرون الأشياء الصغيرة. الرضا لا يعني التوقف عن الحلم، لكنه يعني النظر إلى ما تملكه الآن بعين الامتنان. إنه لحظة تعترف فيها بأنك بخير، حتى لو كانت هناك أشياء لم تحصل عليها بعد. البعض يراه كحالة من الكسل أو الرضوخ، لكنه في الحقيقة مهارة عميقة، أن ترى الجمال وسط الفوضى، وأن تجد السلام في غير المتوقع.
لكن هل هذه المفاهيم متضادة حقًا؟ أم يمكن أن تكون وجهين لعملة واحدة؟ يبدو أن الطموح والرضا يشبهان حبلين متوازيين. لا يلتقيان أبدًا في الظاهر، لكنهما يسيران جنبًا إلى جنب، يكملان بعضهما بشكل غير مرئي. الطموح يدفعك للمضي قدمًا، والرضا يذكرك أن تستمتع بما تجد على طول الطريق.
كيف يمكن للإنسان أن يوازن بينهما؟ هذا هو التحدي الأكبر.
أمثلة واقعية: عندما يلتقي الطموح بالرضا
الحياة مليئة بقصص لأشخاص استطاعوا الجمع بين الحلم الكبير والامتنان العميق. خذ مثلاً شخصًا مثل ستيف جوبز، الذي كان معروفًا بطموحه الذي لا حدود له في إعادة تشكيل عالم التكنولوجيا. ومع ذلك، في لحظاته الأخيرة، تحدث عن أهمية العلاقات البسيطة واللحظات التي تجعل الحياة ذات معنى. قد لا يكون ذلك مثالاً مثاليًا للتوازن، لكنه يُظهر كيف يمكن أن يتعايش الاثنان داخل شخص واحد، ولو بفترات متباعدة.
وفي زاوية أخرى من العالم، هناك قصص أشخاص لم يسعوا ليصبحوا أيقونات عالمية ولكنهم جمعوا بين السعي والهدوء. فكر في صاحب مشروع صغير يعمل بجد لتنمية عمله، لكنه لا ينسى تخصيص وقت لعائلته أو الاستمتاع ببساطة كوب من القهوة في صباح هادئ. هؤلاء هم الأبطال الحقيقيون الذين يعيشون التوازن بين الطموح والرضا.
لكن لا تظن أن الأمر دائمًا سهلًا. هناك من يفقد طريقه وهو يسعى وراء طموحه، يتوه في زحام الرغبات غير المتناهية. وربما تأتي قصة توماس إديسون كدليل على ذلك، حيث كان طموحه للإبداع هائلًا، لكنه في بعض الأوقات كان يأتي على حساب راحته الشخصية وعلاقاته. ومع ذلك، هناك درس هنا: حتى لو كانت الكفة تميل نحو الطموح أحيانًا، يبقى هناك مجال دائمًا للبحث عن السلام الداخلي.
التوازن ليس شيئًا يولد الإنسان وهو يتقنه. بل هو رحلة، تجارب تتخللها نجاحات وأخطاء، واختيارات يومية بين النظر إلى الأفق البعيد وبين تقدير الحاضر.
نصائح عملية لتحقيق التوازن بين الطموح والرضا
الحياة ليست سباقًا للوصول إلى خط النهاية بأقصى سرعة، لكنها أيضًا ليست مكانًا للاستسلام الكامل. إذا كنت تتساءل كيف يمكن أن تكون طموحًا دون أن تفقد قدرتك على التمتع بما لديك الآن، فإليك بعض الأفكار التي قد تساعدك على السير في هذا الطريق المعقد:
1. حدد أهدافك بوضوح، لكن اجعلها واقعية:
الطموح الحقيقي لا يعني السعي لتحقيق المستحيل فقط، بل السعي لتحقيق الممكن بطرق غير اعتيادية. ضع أهدافًا تتحداك دون أن تثقل كاهلك. تذكر أن التقدم البطيء والثابت قد يكون أكثر استدامة من القفزات الكبيرة التي تستهلك طاقتك بالكامل.
2. مارس الامتنان بشكل يومي:
الرضا لا يأتي من امتلاك كل شيء، بل من إدراك قيمة ما تملكه الآن. جرب كتابة ثلاثة أشياء تشعر بالامتنان لها كل يوم، مهما كانت بسيطة. قد يكون كوب قهوة لذيذًا، محادثة دافئة، أو لحظة من الهدوء. هذه العادة تعيد برمجة عقلك للتركيز على الإيجابيات.
3. قس نجاحك بمعاييرك الخاصة:
الطموح يصبح مرهقًا عندما تقيس نجاحك بمعايير الآخرين. تذكر أن لكل شخص طريقه الخاص، وأن ما يناسبهم قد لا يناسبك. ابحث عن تعريفك الخاص للنجاح، وكن راضيًا بما تحققه بناءً على هذا التعريف.
4. وازن بين العمل والراحة:
الطموح قد يدفعك للعمل لساعات طويلة، لكنه لن يجدي إذا كنت مرهقًا طوال الوقت. خصص وقتًا للراحة والاسترخاء. كن صادقًا مع نفسك: متى تحتاج إلى التوقف لتجدد طاقتك؟
5. تأمل الحاضر دون نسيان المستقبل:
الطموح يجعلك تنظر دائمًا إلى الأمام، بينما الرضا يدعوك لتقدير اللحظة الحالية. حاول ممارسة التأمل، ولو لبضع دقائق يوميًا، لتكون حاضرًا في اللحظة دون أن تفكر في الماضي أو تقلق بشأن المستقبل.
6. احتفل بالإنجازات الصغيرة:
لا تنتظر تحقيق الهدف الكبير للاحتفال. الطريق نفسه مليء بمحطات صغيرة تستحق التقدير. هذه اللحظات تغذي روحك وتذكرك بأنك على الطريق الصحيح.
7. تعلم أن تقول لا:
الطموح قد يوقعك في فخ محاولة فعل كل شيء. لكن الرضا يأتي عندما تكون لديك الشجاعة لرفض ما لا يخدم أهدافك أو يستهلك وقتك دون فائدة.
التوازن بين الطموح والرضا ليس وصفة سحرية بل عملية مستمرة تتطلب وعيًا يوميًا. أحيانًا ستشعر بأن أحدهما يطغى على الآخر، وهذا طبيعي. المهم أن تعود دائمًا لتعديل دفتك والاستمرار في رحلتك.
الخاتمة: هل التوازن ممكن؟
في النهاية، يبدو أن الطموح والرضا ليسا خصمين كما قد نظن، بل هما رفيقان يحتاج كل منهما إلى الآخر. الطموح يشعل الحماس في أرواحنا، يفتح لنا الأبواب نحو آفاق جديدة، ويجعلنا نرى إمكانيات كانت تبدو مستحيلة. أما الرضا، فهو يمنحنا القدرة على التوقف لحظة، لالتقاط الأنفاس، وللنظر إلى ما حققناه بعين مليئة بالامتنان.
الحياة ليست دائمًا عادلة، وقد لا نحقق كل أحلامنا مهما كنا طموحين. لكن الرضا يساعدنا على تقبل ذلك بسلام، بينما يمنحنا الطموح القوة للنهوض والمحاولة من جديد. إنه توازن هش، لكنه ليس مستحيلاً.
أنت، كفرد، تملك مفاتيح هذا التوازن. قد تبدأ برحلة مليئة بالطموحات الكبرى، ثم تكتشف أن الرضا عن الأشياء الصغيرة هو ما يضفي على حياتك طعمها الفريد. أو ربما تكون راضيًا بما لديك الآن، ثم يظهر بداخلك شغف يدفعك لمحاولة تحقيق شيء أكبر. في كلتا الحالتين، التوازن ليس غاية ثابتة، بل رحلة مستمرة تعيد تشكيلها مع كل تجربة جديدة.
السؤال الذي يبقى معك الآن هو: كيف ترى نفسك؟ هل أنت طموح يحتاج إلى قليل من الرضا، أم قانع بحاجة إلى دفعة من الطموح؟ الإجابة لن تجدها في كلمات هذا المقال، بل في أعماق تجربتك الخاصة.
العبرة ليست في أن تختار بين الطموح والرضا، بل في أن تجعل كل منهما يخدم الآخر، لتخلق حياتك الخاصة، كما تريدها أنت.
المستشار الدكتور خالد السلامي – سفير السلام والنوايا الحسنة وسفير التنمية ورئيس مجلس إدارة جمعية أهالي ذوي الإعاقة ورئيس مجلس ذوي الهمم والإعاقة الدولي في فرسان السلام وعضو مجلس التطوع الدولي وأفضل القادة الاجتماعيين في العالم لسنة 2021 وحاصل على جائزة الشخصيه المؤثره لعام 2023 فئة دعم أصحاب الهمم وحاصل على افضل الشخصيات تأثيرا في الوطن العربي 2023 وعضو اتحاد الوطن العربي الدولي. عضو الامانه العامه للمركز العربي الأوربي لحقوق الإنسان والتعاون الدولي حاصل على جائزة أفضل شخصيه مجتمعية داعمه لعام 2024.